"احرص على الموت توهب لك الحياة".. مقولة تشرَّبتها روح المجاهد أديب أحمد جرار، فأمضى عشرات السنوات من عمره، مجاهداً في سبيل الله، لا همّ له، سوى رضا الله، ورؤية وطنه مزهوّاً بحريته كباقي الدول.

فقد قاتل الإنجليز فتىً في بداية شبابه، وتتلمذ على يدي الشهيد عز الدين القسّام في حيفا، وشارك في قتال الإنجليز في ثلاثينيات القرن الماضي، وقاتل الاحتلال عام 1948، وبقي متمسكاً بجمرة المقاومة، حتى وافته المنية في مدينة جنين في (16-6-2015)، وهو على مشارف المئة عام من العمر، بعد أن قاتل وجُرح واعتُقل وهُدم منزله وقدم نجله شهيداً.

ولد الشيخ أديب أحمد جرار في بلدة برقين شمال مدينة جنين، ورغم أن أوراقه الرسمية توثّق العام 1922 سنةً لميلاده، إلا أن نجله علي يؤكد لمراسل "المركز الفلسطيني للإعلام": "أن العام 1917 هو العام الحقيقي لتاريخ الميلاد، كما كان يذكر المرحوم نفسه لأبنائه"، أجاد الحاج أديب القراءة والكتابة في طفولته، فقد أتم الصفين الأول والثاني في كتاتيب البلدة، وفي الثالثة عشرة من عمره، توجه إلى ميناء حيفا، للعمل فتىً صغيراً في الميناء.

تربيته الجهادية

وفي عامه الأول في حيفا، وفيما يقارب العام 1930، أدرك الفتى أديب جرار، أن الجنود الإنجليز الذين كان يشاهدهم في كل مكان، بلباسهم العسكري، أغراب عن وطنه، لا يريدون له الخير، لذلك كانت أولى نشاطاته في المقاومة، وهو في الثالثة عشرة من العمر، عندما استطاع غَنْم بندقية أحد الجنود الإنجليز على ميناء حيفا، بعد أن غافله وشاغله.

كان الفتى جرار مستقيماً بفطرته، لذلك كان دائماً ما يرتاد مسجد الاستقلال في حيفا، الذي اتخذه الشهيد المجاهد عز الدين القسّام، مدرسة تعبوية جهادية، وكان جرار دائما ما يذكر لأبنائه حبه وتعلّقه بشيخه القسّام كما يؤكد نجله علي، ومع هذا لم يستطع علي تأكيد مرافقة والده للمجاهد عز الدين القسّام في جهاده، لكون والده كما يقول: كان حريصاً على عدم الحديث عن أعماله الجهادية.

تشرَّب أديب جرار روح القسّام وتعاليمه الجهادية، ووعى منه الخطر المحدق بالوطن بوجود الإنجليز، ودورهم في توطئة القدم للاحتلال، فقد حمل بندقيته مبكراً.

ففي أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، كان جرار جندياً في جيش الاتحاد (الأردني الفلسطيني)، للدفاع عن القرى والمدن الفلسطينية من اعتداءات الإنجليز واليهود، في مناطق جنين والعفولة والناصرة.

وفي العام 1948، شارك في الدفاع عن الأراضي الفلسطينية، وأصيب في تلك الحرب برصاصة في فخذه الأيسر، وفي العام 67، انضم إلى حركة فتح، للجهاد في صفوفهم سعياً لإعلاء راية الله، ودون مقابل، إلا إذا أصابت عائلته فاقه، بأن يتولونهم، لكنه ما لبث أن فارقهم، بعد عام من انضمامه لهم، ويقول بعض أفراد عائلته: "بأنه أصيب بخيبة أمل مما لاقاه من بعضهم، بعد أن تخلوا عن أسرته خلال جهاده".

اعتقاله وتحرره

في العام 1969، سجن عبد الحميد إرشيد، أحد قيادات الثورة في جنين وقتها، ووجدوا في منزله قائمة بأسماء أربعين مقاوماً، كانوا يعملون معه، كان أديب جرار واحداً منهم، حيث اعتقله الاحتلال، واعتقل أغلبهم، واتُّهموا بشنِّ 40 عملية عسكرية ضد الاحتلال، فقام الاحتلال على إثرها، بنسف منزل أديب جرار في منطقة واد برقين شمال مدينة جنين، وقال له المحقق الصهيوني الذي كان مبتور الرجلين خلال تحقيقه معه: "أتدري من بتر لي رجليَّ؟، إسأل نفسك؟!!"، في كنايةً عن دور جرار في إصابة المحقق.

وقد حكم على جرار وقتها بالسجن لمدة خمس سنوات، لكنه وبعد عامين ونصف، تم الإفراج عنه لإصابته بسرطان في القولون، وبعدها بسنوات أجرى عملية جراحية في مستشفى جنين الحكومي، وتم استئصال متر كاملٍ من قولونه.

أقعد المرض جسد أديب جرار، لكنه لم يُقعد همَّته وروحه المتَّقدة للجهاد، فبدأ يزرع بأبنائه حبَّ الجهاد والوطن والمقاومة، وكان كل حديثه في الجلسات العامة ينصبُّ في ذات الأمر، الداعي لمقاومة الاحتلال، حيث اعتقل ولداه: محمد وعمر عام 1989، على خلفية مشاركتهما في فعاليات الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة)، حيث حُكم على محمد بالسجن لعام ونصف العام، فيما تم الإفراج عن عُمر بعد 22 يوماً.

وقد تعرض نجله محمد لتحقيق قاس في سجنه، على خلفية مشاركته في عملية عسكرية مع الشهيد نصر جرار، والشهيد سامي الغزاوي، وارتقى فيها الغزاوي شهيداً، فيما تم الحكم على نصر جرار بالسجن 12 عاماً، أما محمد فقد خلَّفَ التحقيق القاسي معه، مرضاً عصبياً له، وتم الإفراج عنه بعد عام ونصف من اعتقاله، ولازمه مرضه حتى وفاته في العام 2011، أما عُمر، فقد وجد ضالته في أيامه القليلة في سجنه، بعد أن تعلَّم صناعة المتفجرات على أيدي بعض الأسرى، لكنه في (20-12-1989) استشهد خلال إحدى تجاربه في تصنيع المتفجرات، بعد أن انفجرت فيه إحدى عبواته الناسفة، وقد تبنته وقتها ثلاثة فصائل هي: حركة فتح وحركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس، فيما تؤكد عائلته أنه كان ينتمي وقتها لحركة حماس.

وفاته وتشييع جثمانه

يقول نجله علي: "إن والده حافظ على صحته، بعد أن اتخذ من الدراجة الهوائية وسيلة لتنقله، وقد أمضى أعوامه العشرة الأخيرة في العمل، في فلاحة الأرض وزراعتها، وكانت له حديقة فيها شتى أنواع الأشجار، تقدر مساحتها بدونمين، لكنَّ المرض أقعده في آخر شهرين من حياته، نتيجة انسداد بعض صمامات قلبه، وإصابته بالضغط، وقبل أيام من وفاته نقل إلى مستشفى جنين الحكومي.

وفاضت روحه صباح (16-6-2015)، وتم تشييع جثمانه في جنازة مهيبة من مسجد بلدة برقين الكبير، وتم دفنه في مقبرة البلدة، بعد حياة حافلة بالمقاومة والتضحية والجهاد، لرجل عاصر الاحتلال في أول أيامه، وقد غادر الدنيا وهو على أمل أن تكتحل عيناه بوطنه محرراً، لكنه عزاؤه أنه قام بواجبه، ونقل حب المقاومة إلى كل من يحب ويعرف

  جميع الحقوق محفوظة - المركز الفلسطيني للإعلام