حـــكـــمــيـــة جــــــرار - رحمها الله
هزاع البراري - شكلت الأديبة والصحفية والناشرة حكمية جرار حالة فريدة في المشهد الثقافي العربي، فكانت ابنة المكان الممتد من الجرح إلى الجرح، وبرزت كزيتونة نبتت في فلسطين، ونمت وترعرعت في الأردن والعراق، غير أن القلب بقي يشرئب اتجاه الوطن المسلوب، فالجرح تفرع إلى جراح لا ينتهي مداد ألمه بانتهاء العمر، فحكمية جرار التي فجعت بضياع فلسطين وهي بعمر الطفولة، لم تجد غير الكلمة وطناً تلتجئ إليه، كلما تكسرت الأحلام وادلهمت الخطوب وتاهت البوصلة، لذا عملت في الكتابة الإبداعية وفي الصحافة الثقافية وفي النشر والتوزيع، لتكون الكلمة بمثابة البيت والبندقية والحلم، والسبيل لتحقيق التوازن في العيش في واقع مهزوم وسياق عام غير متزن.
ولدت الأديبة والناشرة حكمية جرار في مدينة نابلس العريقة، التي كانت في بؤرة النضال الفلسطيني، حتى لقبت لصلابة موقفها « جبل النار « فكانت حكمية جذوة من هذه النار، ولدت في عام 1954، حيث كان جزء من فلسطين مغتصب والآخر تحوم حوله دوائر المؤامرات، وقد عاشت خطواتها الأولى في نابلس، وانطبعت صور الأسواق والحارات والشوارع في ذاكرتها، وكأن الذاكرة هي المعوض عن الفقدان الحقيقي والموجع، فلقد ضاع ما بقي من فلسطين في حرب الـ 67 وصارت نابلس والقدس ومدن الضفة الغربية وغزة، بعيدة عن متناول الأقدام، لكنها بقيت الحلم والهاجس والهدف، بل بقيت مبعث الحياة ودافع الكتابة والنشر، لأن الكلمة كما الأرض خالدة لا تمحى ولا تطمس معالمها.
ازدهر نتاجها الثقافي وتعمق توجهها القومي، بعد انتقالها للإقامة في بغداد فترة من حياتها، وكانت العراق تكابد أحداثاً جساماً ومواجهات حاسمة، حيث اندلعت الحرب العراقية والإيرانية، وهي الحرب القاسية ذات الكلفة البشرية والمادية الكبيرة، والتي استمرت ثمانية سنوات متواصلة، والتي نتج عنها حرب الخليج الثانية والثالثة، وقد خلف سقوط بغداد عام 2003 حسرة جديدة في قلبها.
أصبحت حكمية جرار اسماً لامعاً في الحياة الثقافية في بغداد، وكانت على علاقة طيبة مع عدد كبير من كبار الكتاب العراقيين، المنحازين للقضايا العربية وللناس المهمشين، وقد عملت في بغداد محررة في مجلة الطليعة الأدبية، حيث اكتسبت من خلال عملها هذا خبرة كبيرة في مجال التحرير الصحفي، خاصة في الصحافة الثقافية، وبعد هذه التجربة الثرية انتقلت للعمل في دار ثقافة الأطفال في بغداد.
اعتبرت حكمية جرار صوتاً أدبياً نسائياً مميزاً له خطه الخاص، وقد نشرت قصصاً ونصوصاً في الصحف والمجلات، هو ما أهلها لتصبح عضواً في رابطة الكتاب الأردنيين من عقد ثمانينيات القرن الماضي، ورغم عدم توجهها إلى نشر كتاباتها في كتب، وهي التي أسهمت في نشر عديد من كتب زملائها الكتاب العرب، إلا أنها نشرت كتاباً مشتركاً بعنوان « أوراق « والذي صدر عن رابطة الكتاب الأردنيين عام 1981، لكن تأثير حكمية جرار في الحياة الثقافية، خاصة في بغداد وعمّان كان كبيراً وواضحاً، وقد كتبت أيضاً المقالة الثقافية في صحف عراقية وأردنية وخليجية، وكانت مندوبة لمجلات عربية خلال إقامتها في عمان، مما جعلها قبيل صراعها للمرض، في قمة عطائها في هذه المجالات.
..وعانت من مرض عضال، أبعدها عن الساحة الثقافية، ذلك الميدان الذي أفنت فيه حياتها التي لم تكن طويلة بما يكفي، واستمرت على هذا النهج، حتى توفيت بصمت في الثاني من شباط عام 2008، تاركة في القلوب حسرة فقدان كاتبة وناشرة تميزت بالحس النضالي في كل خطوة خطتها، لذا كان فقدها خسارة كبيرة ومؤلمة، ومازالت رغم الغياب حاضرة في ذاكرة ووجدان كل من عرفها وعمل معها، وستبقى صوتاً صادقاً عصياً على النسيان، بل يزداد وضوحاً مع مرور الأيام.
25/03/2019 08:04 am 2,094